لِمَاذَا نُزِّلَ القُرْآنُ بِلُغَةِ قريشٍ؟
لَمَّا بَلَغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسًا وَعِشْرِيْنَ مِنْ عُمْرِهِ أَرْسَلَ اللهُ إِلَيْهِ رِسَالَةً بِوَسِيْلَةِ جِبْرِيْلَ عَلَيْهِ السّلاَمَ فِيْ غَارِحِرِاءٍ وَهِيَ رِسَالَةُ الإِسْلَامِ أَوْ نُزُوْلِ القُرْآنِ. أَنْزَلَ اللهُ القُرْآنَ فِيْ 17 رَمَضَانَ سَنَةٍ 13 قَبْلَ الهِجْرَةِ وَذلِكَ يُوَافِقُ بِيُولِيُو سَنَة 610 مِيْلَادِي . أَوَّلُ آيَةِ الَّتِي نُزِّلَتْ هِيَ خَمْسَةُ الأُوْلَى مِنْ سُوْرَةِ العَلَق [اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِيْ خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِيْ عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الِإنْسَانَ مَالَمْ يَعْلمْ (5)]. اتَّفَقَ اللُّغَوِيِّيْنَ وَالْمُؤَرِّخُوْنَ عَلَى اللُّغَةِ الَّتِيْ نُزِّلَ بِهَا الْقُرْآنُ هِيَ اللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ اسْتِعْمَلَتْهَا قَبِيْلَةُ قُرَيْشٍ فِي عَصْرِ الجَاهِلِيْ
اسْتَشْهَرَ عَصْرُ الجَاهِلِيْ بِزَمَنٍ كَثِيْرٍ فِيْهِ الجُهَّالُ: جَهْلُ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ مِنْ أَنْوَارِ الإِسْلاَمِ. جَانِبًا مِنْ اخْتِلَافِ المُؤَرِّخِيْنَ عَنْ مَعْنَى الجَاهِلِ هُمْ اتَّفَقُوْا عَلَى أَنَّ سُكَّانَهُ يَسْتَخْدِمُوْنَ اللُّغَةَ العَرَبِيَّةَ نَابِغِيْنَ وَبَارِعِيْنَ فِيْهَا. الدَّلِيْلُ عَلَى هَذَا صَنْعُ الشِّعْرِ وَإِلْقَائِهِ. كُلُّ شُعَرَاءِ القَبِيْلَةَ يُلْقُوْنَ أَشْعَارَهُمْ بَيْنَ قَبَائِلَ أُخْرَى بِلَهْجَتِهَا المُمَيِّزَةِ. قَالَ مُصْطَفَى صَادِقُ الرَّافِعِي فِي كِتَابِهِ تَارِيْخُ الأَدَبِ الجَاهِلِي أَنَّ هُنَاكَ ثَمنِيْنَ قَبِيْلَةً بِلَهْجَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِنْهَا: لَهْجَةُ لِقَبِيْلَةِ قُرَيْشٍ وَتَمِيْمٍ وَقَيْسٍ وَأَسَدٍ وَهُذَيْلٍ وَهَوَازِنَ وَبَعْضَ العَشَائِرِ الكِنَانِيَّةِ وَالطَّائِيَّةِ وَالنَّجْدِيَّةِ
بَقَيْنَا نَتَسَائَلُ الآنَ فِي اخْتِيَارِلُغَةِ قُرَيْشٍ لُغَةً لِلْقُرْآنِ. سَنَعْرِفُ سَبَبَهُ خِلَالُ جَانِبَيْنِ إِنْ شَاءَ اللهُ: مَنْزِلَةُ قُرَيْشٍ عِنْدَ العَرَبِ وَخَصَائِصُ لُغَتِهَا
كَانَتْ قُرَيْشٌ أَكْبَرَوَأَعْظَمَ القَبَائِلِ العَرَبِيَّةِ، عُرِفَتْ بِمَكَانَتِهَا وَمَنْزِلَتِهَا بَيْنَ قَبَائِلِ العَرَبِ، حَيْثُ كَانَتْ لَهَا امْتِيَازَاتُ اجْتِمَاعِيَّةٌ كَبِيْرَةٌ عَلَى جَمِيْعِ القَبَائِلِ قَبْلَ الإِسْلَامِ، وَذلِكَ بِسَبَبِ سِيَادَتِهَا عَلَى مَكَّةَ وَبَيْتِ الحَرَامِ. تَنْقَسِمُ قَبِيْلَتُهَا إِلَى قِسْمَيْنِ، هُمَا قُرَيْشُ البَطَّاحِ وَقُرَيْشُ الظَّوَاهِرِ. هُمْ يَتَكَلَّمُوْنَ بِلُغَةٍ عَرَبِيَّةٍ الَّتِي هِيَ إِحْدَى اللُّغَاتِ السَّامِيَّةِ الشَّمَالِيَّةِ (نُسِبَتْ إِلَى سَام بْن نُوْح) احْتَفَظَتْ بِخَصَائِصِهَا اللِّسَانِ السَّامِي الأَصِيْل أَكْثَرَ مِمَّا احْتَفَظَتْ بِهِ العِبْرِيَّة وَأَخْوَاتهَا مِنَ اللُّغَةِ السَّامِيَّةِ الأُخْرَى، وَالسَّبَبُ مِنْهَا هُوَ انْعِزَالُ جَزِيْرَةُ العَرَبِيَّةِ البَدْوِيَّةِ عَنْ خَارِجِهَا حَتَّى تَخْتَصَّ بِصِفَةٍ وَمَوْقِعَةِ الصَّحْرَاوِيَّةِ تُضَافِرُ عَلَى سَلَامَةِ وَنَقِيَّةِ هذِهِ اللُّغَةِ، وَمِنْ خَصَائِصِ اللُّغَةِ عَامَّةً: تَتَغَيَّرُ آخِرُ كَلِمَاتِهَا بِتَغْيِيْرِ العَوَامِلِ الدَّاخِلَةُ عَلَيْهَا مِنْ نَصْبٍ وَرَفْعٍ وَجَرٍّ وَسُكُوْنٍ، وَدِقَّةُ فِي التَّعْبِيْرِ بِحَيْثُ وُجُوْدِ كُلّ لَفْظٍ مَعْنَاهُ الخَاص، وَتَفَرَّعَ مَعَانِي الأَفْعَالِ،وَمُتَرَادِفَاتِ الأَسْمَاءِ وَضِدُّهَا
أَّمَّا خَصَائِصُ الَّتِي أُطْلِقَتْ إِلَى لَهْجَةٍ قُرَيْشٍ نَفْسَهَا، يَقُوْلُ أَبُوْ نَصْر الفَارَبِي: (( كَانَتْ قُرَيْشٌ أَجْوَدَ العَرَبِ، انْتِقَاءً لِلْأَفْصَحِ مِنَ الأَلْفَاظِ وَأَسْهَلَهَا عَلَى اللِّسَانِ عِنْدَ النُّطْقِ وَأَحْسَنَهَا مَسْمُوْعًا وَأَبْيَنَهَا إِبَانَةً عَمَّا فِي النَّفْسِ)). وَيَقُوْلُ أَحْمَدُ بْن فَارِس نَقْلًاعَنْ إِسْمَاعِيْل بْن أَبِي عُبَيْدِ الله: ((أَجْمَعَ عُلَمَائُنَا كَلَامَ العَرَبِ بِالرُّوَاةِ أَشْعَارِهِمْ وَعُلَمَاءُ لُغَتِهِمْ وَأَيَّامِهِمْ وَمَحَلِّهِمْ أَنَّ قُرَيْشًا أَفْصَحُ العَرَبِ أَلْسِنَةً وَأَصْفَاهُمْ لُغَةً، بِذلِكَ أَنَّ اللهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ اخْتَارَهُمْ مِنْ جَمِيْعِ العَرَبِ وَاصْطَفَاهُمْ وَاخْتَارَ مِنْهُمْ نَبِيَّ الرَّحْمَةِ مُحَمَّدًا فَجَعَلَ قُرَيْشًا جِيْرَانَ بَيْتِهِ الحَرَامِ. ثُمَّ أَتَى إِلَيْهِمْ الوُفُوْدُ مِنَ العَرَبِ تَنَقَّوْا مِنْ كَلَامِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ أَصْفَى لُغَتَهُمْ … أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَا تَجِدُ فِي كَلَامِهِمْ عَنْعَنَةَ تَمِيْمٍ وَلَا عَجْرَفِيَّةَ قَيْسٍ وَلَا كَشْكَشَةَ أَسَدٍ وَلَا كَسْكَسَةَ رَبِيْعَةٍ)). (شوقي ضيف، تاريخ الادب العربي: 132)ـ
لِذَا أَصْبَحَتْ لَهْجَةُ قُرَيْشٍ لُغَةً أَدَبِيَّةً لِلْعَرَبِ ثُمَّ أَرْسَلَ اللهُ مِنْهَا رَسُوْلًا خَاتَمَ الرُّسُلِ نَبِيًّا خَاتَمَ الأَنْبِيَاءِ أَلَا وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ المُطَلِّبِ بْنِ هَاشِمِ الَّذِي هُوَ زَعِيْمٌ مِنْ زُعَمَاءِ قُرَيْشٍ. وَأُمُّهُ أَمِيْنَةُ بِنْتُ وَهبِ بْنِ عَبْدِ المَنَافِ بْنِ زَهْرَةِ بْنِ كِلَابِ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَفْضَلِ نِسَاءِ قُرَيْشٍ نَسَبًا وَمَوْضِعًا
بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَوَامِعِ الْكَلَامِ وَأَفْصَحِ اللِّسَانِ بِمَا بَرَعَ فِيْهِ العَرَبُ مِنْ فُنُوْنِ الْقَوْلِ تَعْجِيْزًا لِكُفْرَانِ قُرَيْشٍ وَاعْتِرَاضِهِمْ عَلَى الوَحْيِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ نَفْسِ اللُّغةِ مَعَهُمْ يَعْلَمُوْنَ وَيَفْهَمُوْنَ وَلكِنَّهُمْ يُكَذِّبُوْنَ وَيَتَوَلَّوْنَ
ـ[وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ۚ إِنْ هُوَإِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ] سورة يس: 69. كَذلِكَ فِي سُوْرَةِ الشُّعَرَاء: 192-195 [وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)]ـ
قَالَ الطَّبَرِي فِي تَفْسِيْرِهِ: يَقْصُدُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِيْنٍ فِي هذَا المَوْضِع، إِعْلَاًما مِنْهٌ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ أَنَّهُ أُنْزَلَ كَذَالِكَ، لِئَلَّا يَقُوْلُوْا إِنَّهُ نُزِّلَ بِغَيْرِ لِسَانِنَا بَلْ هُوَ أَفْصَحُ وَأَوْجَزُ مِنْهُ
أُقَصِّرُ المَقَالُ، قَدْ عَرَفْنَا الآنَ أَنَّ لَهْجَةَ قُرَيْشٌ لَمْ يَبْدَأُ ذُيُوْعُهَا وَانْتِشَارُهَا بَيْنَ العَرَبِ فِي الإِسْلَاِم عَنْ طَرِيْقِ القُرْآن الكَرِيْم، فَقَدْ كَانَتْ ذَائِعَةً مُنْتَشِرَةً بَيْنَهُمْ مُنْذُ عَصْرِ الجَاهِلِي بَلْ مُنْذُ أَوَائِلِهِ. فَأُقَدِّمُ نُصُوْصَهُ وَأَحَادِثَهَا نُظُمًا بِهذِهِ اللَّهْجَة القُرَيْشِيَّة الَّتِي عَبَّرْنَا اليَوْمَ بِالفُصْحَى، فَقَدْ كَانُوْا يَشْعُرُوْنَ بِرَوْعَتِهَا، فَانْدَفَعُوْا يُحَاكُوْنَهَا، وَقَدْ امْتَلَأَتْ نُفُوْسَهُمْ بِأَهْلِهَا. وَمِنْ غَيْرِ شَكٍّ فَقَدْ أَقْبَلُ العَرَبُ فِي كُلِّ مَكَانٍ شِمَالًا وَجَنُوْبًا عَلَى الارْتِشَافِ لُغَتِهِ، وَقَدْ أَخَذَ يُعَمِّمُهَا لاَ فِي أَنْحَاءِ الجَزِيْرَةِ القَاصِيَةِ وَحْدَهَا بَلْ فِي كُلِّ بُلْدَانٍ إِسْلَامِي شَرْقًا وَغَرْبًا. وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
_____________
صاحبة المقالة: إيماس ديرا فضيلة